يوميات طبيب مصرى جدا ( أكثر من خمسة عشر عاما بين المرضى.. حكايات منها
القديم والجديد.. ذكريات بين ألام وأحلام
أراها واقعا بينهم.. فلتسمحوا لى أن تعيشوا يوما معنا )
أرجوك .. لو سمحت
أرجوك .. لو سمحت:
- - ابتسم وأنت تعاملنى.
- - تكلم ببطئ، ودع وقتا لى للتفكير والاستيعاب.
- - استمع لى وفكر فيما أقول باهتمام.
- - احترم كونى إنسان، ولاتسخر من اختلافى عنك.
كلمات بسيطة مكتوبة بعناية على كارت صغير من الورق، أعطانى إياه هذا
الطفل الذى اقتحم مكتبى فى المستشفى، نظرة عينيه إلى المجهول بداخلى وابتسامته
البريئة المرسومة على وجهه فاجأتنى حقا، ابتسامة وحب مع عطف وحنان اكتسبهم فى لحظة
واحدة، ظهرت خلفه سيدة فى الأربعين تقريبا تدخل المكتب على استحياء، ماإن رأيتها
حتى سقطت عشر سنوات من ذاكرتى لأعود فى لحظة واحدة ليوم رؤيتى لها أول مرة.
فى يوم لاأنساه منذ عشرة أعوام تقريبا، أغلق دكتور المليجى – رئيس قسم
طب الأطفال حينذاك – التليفون ليوجه الحديث لى ولزملائى بما سمع من استشارى النساء
والتوليد، إنها سيدة تعدت الثلاثين من العمر، تكرر حملها أكثر من خمس مرات، لكنه
فى كل مرة ينتهى الحمل بنزيف وسقط ، تم عمل الفحوصات المطلوبة كل مرة ولم يجد
الأطباء مبرر واضح لسبب عدم اكتمال الحمل فى كل مرة، المشكلة أنها لم تفقد الأمل
واستمرت فى المحاولات الفاشلة مرة بعد أخرى، هذه المرة مرت بسلام الفترة المتوقع
فيها النزيف والسقط ليعطيها هذا أمل جديد، ولكن مع متابعة الحمل والجنين بالموجات
الصوتية ذات الأبعاد وجد الأطباء المعالجين شئ جديد يدعو للأسى، فالجنين يعانى من
توقف فى نمو الرأس مما يوحى بوجود عيوب خلقية فى تكوين المخ فى المستقبل، تأكدوا
بعمل بعض الاختبارات المكملة للتشخيص، سيعانى هذا الطفل من تأخر عقلى مع احتمال
وجود عيوب خلقية فى أعضاء أخرى من الجسم، المشكلة الأكبر أنها ستأتى بعد قليل لنا
لنعطيها رأيا حاسما وننصحها بإسقاط هذا الحمل بواسطة الأطباء.
لحظة صمت شملتنا جميعا، صدمة هى حقا لأم تنتظر مولودها بعد طول عناء،
واجبنا الآن شرح مايعانيه هذا الجنين، ومستقبله إذا أراد الله له الحياة، من يقدر
على النطق بتلك الحروف لها؟.
لحظات حتى دخلت تلك السيدة، تستند على ذراع زوجها، تتأمل وجوهنا جميعا
بأسى وحسرة وحزن، تجلس على أول مقعد وعيناها ممتلئتان بالدموع، فطبيب النساء أكد
لها الخبر وتنتظر منا الشرح والتأكيد، تخاف أن تسألنا، نظراتها وخلجاتها تتوسل لنا
فى صمت ألا نؤكد لها هذا الحديث، ننظر لأنفسنا جميعا محاولين الهروب، لم يستطع
رئيسنا التهرب هو الآخر، كلمات قليلة خرجت منه، عبارات علمية جافة ليس لها بديل،
تتأمله وتقطع عليه حديثه، مجرد سؤال تريد إجابته، ماذا تفعل؟ ليكون رده بكل قسوة:
يجب إنهاء هذا الحمل.
يوم واحد بعدها، تدخل علينا نفس السيدة دون استئذان، عيناها متسعتان
تنظر لنا فى تحد واضح، لفت نظرى وجود مصحف صغير فى يدها تضغط عليه بشدة، تبدأ
الحوار بكلمات متقطعة غير واضحة، طلبنا منها الجلوس والهدوء حتى نفهم ماتقول، كان مجرد خبر تريد إطلاعنا
عليه! ستحتفظ بهذا الجنين، تريده مهما كان مافيه، هذا حقها وستتمسك به.
كانت كلماتها مفاجئة لنا جميعا، تتحدث معنا فى أدق تفاصيل حياتها،
تريد منا أن نبارك هذا المصير الذى تخطه يداها لحياتها ولمولودها فيما بعد، قالت
أن زوجها سيكمل خطوات زفافه على أخرى خلال أيام، ستكون وحيدة كما كانت طوال عمرها،
هل نطلب منها أن تتخلى عن هذا الإنسان الذى منحه لها الله؟ هل ستقضى على أمل
حياتها الوحيد بيدها؟ تعلم أنه سيعانى من عيوب خلقية ستغير شكل حياتهما، لكنه قدر
لها ولهذا الطفل.
تسألنا وكلها ألم، أيهما أفضل: أن تعيش مع جزء منها وتحاول أن تسعده
ويسعدها، أم البديل أن تعيش وتموت دون أنيس أو ذكرى؟ هل ننصحها بتربية حيوانات
صغيرة تؤنس وحدتها، أم تربى هذا المخلوق الذى أهداه لها الله ليكون معها باقى
عمرها؟.
قاطعها دكتور المليجى ليرد عليها بهدوء، يرى ماستفعله أنانية مفرطة
منها، إنها لاتفكر فى هذا المخلوق الوليد وشكل حياته، هل سيستطيع العيش بدونها لو
حدث لها مكروه؟ هل ستشعر بآلامه وتنقذه منها؟ هزتها كلماته لوهلة، ثم قالتها بصوت
عال: إنها إرادة الله وستجتهد قدر استطاعتها، عبارة ألقتها ورحلت دون انتظار لرد.
هاهو كل هذا العمر قد مضى لأجد نفسى الآن أمامها وجه لوجه، ولا أعرف
هل تتذكرنى؟ وهذا الطفل الجميل هو ابنها المنشود وقتها، وكأن القدر أراد أن يخبرنى
بما فعلت.
دخلت المكتب وجلست أمامى لتحدثنى بأمرها،لاحظت وجود المصحف بيدها وكأنها
مازالت تضغط عليه بشدة طوال هذه السنين، قالت أنها أنشأت جمعية خيرية لمساعدة
الأطفال ذوى الأحتياجات الخاصة ومساعدة أهاليهم، تريد أن تترك لى بعض الكتيبات
الخاصة بعملها لتوزيعها على محتاجيها، ورغبتها فى تقديم يد العون لمن يحتاج
مشورتها فى هذا المجال، حدثتنى عن احتياج هؤلاء الأطفال لتوعية المجتمع لكيفية
التعامل معهم، احتياجهم لملابس ولعب خاصة تناسبهم لتنشئتهم بشكل سليم، إرشاد أسرى
يحتاجه أهل هؤلاء الأطفال لتوفير التربية والرعاية السليمة لهم، أخبرتنى أنها تقيم
المعسكرات لهؤلاء الأطفال وأقاربهم للتواصل والمساعدة، كما أنها على إتصال بأحدث
الجمعيات والمراكز المتخصصة بهذا المجال بالخارج لتحقيق أفضل رعاية لأطفالنا،
أعطتنى كل هذه المعلومات عنها وطلبت منى برجاء أن أساعد من يحتاج للتواصل معها
بهذا الشأن، شكرتها على مجهودها وتمنيت التوفيق لها ولابنها ووعدتها بالتعاون معها
فيما بعد.